الملف السياسي

غزة بعد الهدنة: إدارة صراع أم بداية تسوية؟

عداد: م. إسماعيل عبد اللطيف الأشقر

أولًا: مقدمة – هدنة هشة

رغم الإعلان عن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فإن المشهد السياسي والميداني لا يشير إلى انتقال حقيقي نحو السلام، بل إلى مرحلة إدارة صراع تهدف إلى خفض الكلفة دون حسم جذور النزاع. فالهدنة الحالية لا تمثل نهاية الحرب، بل إعادة ضبط لإيقاعها وأدواتها.

ثانيًا: طبيعة الهدنة – استقرار هش وخروقات محسوب

تتسم الهدنة بسمتين أساسيتين:

1. الهشاشة البنيوية: غياب اتفاق سياسي شامل يجعل أي حادث ميداني قابلًا للتطور السريع.

2. الخروقات الوظيفية: بعض الانتهاكات لا تُقرأ كأخطاء، بل كرسائل ضغط لإعادة تشكيل شروط التفاوض.

النتيجة أن الهدنة تحولت إلى أداة تفاوض بالنار المنخفضة الكثافة، لا إلى مسار سلام.

ثالثًا: عقدة المرحلة الثانية – سؤال الحكم والسلاح

تعثّر الانتقال إلى “المرحلة الثانية” من الاتفاق يعود إلى ملفات مؤجلة تاريخيًا:

• من يحكم غزة؟

هل تعود السلطة الفلسطينية؟ أم إدارة توافقية؟ أم وصاية دولية؟

• ماذا عن السلاح؟

يُطرح نزع سلاح المقاومة كشرط سياسي، بينما تراه الفصائل ضمانة وجود.

• الانسحاب وإعادة الانتشار

أي انسحاب كامل يعني اعترافًا سياسيًا بفشل الحرب، وهو قرار مكلف داخليًا لدى إسرائيل.

هذه الملفات ليست تقنية، بل تتعلق بالسيادة والشرعية، ولذلك يصعب حسمها دون قرار سياسي كبير.

رابعًا: البعد الإنساني – من مأساة إلى أداة سياسية

رغم الحديث الدولي عن تراجع مؤشرات المجاعة، فإن الواقع الإنساني لا يزال هشًا:

• المساعدات أصبحت أداة قياس سياسي للاستقرار.

• التحكم في وتيرتها ومساراتها يشكل وسيلة ضغط غير مباشرة.

• أي تدهور إنساني يعيد شبح الانفجار الأمني.

بذلك، لم يعد الملف الإنساني منفصلًا عن التفاوض، بل جزءًا من هندسة الصراع.

خامسًا: إعادة الإعمار – إعمار أم إعادة تعريف غزة؟

الخطط المطروحة لإعادة إعمار غزة تتجاوز البعد الهندسي إلى مشروع سياسي:

• تحويل غزة من قضية تحرر إلى ملف استثمار وحوكمة.

• تغييب سؤال السكان، الأرض، والعودة.

• ربط الإعمار بشروط أمنية يجعلها أداة ابتزاز سياسي.

من دون معالجة قضايا السيادة والتمثيل، تبقى الإعمار وعدًا مؤجلًا لا مشروعًا قابلًا للحياة.

سادسًا: المسار القانوني الدولي – صراع الشرعيات

استمرار المسار القضائي الدولي يضيف طبقة جديدة للصراع:

• يرفع كلفة القرار العسكري والسياسي.

• يدفع بعض الأطراف إلى تعطيل التسويات خوفًا من المحاسبة.

• يحوّل الصراع إلى معركة سرديات وشرعية، لا ميدان فقط.

القانون هنا ليس نهاية الصراع، بل أحد ميادينه.

سابعًا: السيناريوهات المحتملة

1. استمرار الهدنة الهشة (الأرجح)

هدوء نسبي، خروقات متقطعة، مفاوضات بلا اختراق.

2. تصعيد محدود ثم احتواء

انفجار موضعي يعاد ضبطه عبر الوسطاء.

3. تسوية مرحلية موسعة (الأصعب)

تتطلب صفقة شاملة تشمل الحكم، السلاح، والانسحاب، ولا تتوفر شروطها بعد.

خاتمة: غزة بين إدارة الألم وكسر المسار

ما يجري ليس انتقالًا من الحرب إلى السلام، بل من الحرب المفتوحة إلى إدارة الألم. كسر هذا المسار يتطلب:

• قرارًا سياسيًا يعترف بجذور الصراع لا أعراضه.

• مقاربة تضع الإنسان والسيادة قبل الأمن المجرد.

• نقل غزة من ملف تفاوضي إلى قضية عدالة وحقوق.

إلى ذلك الحين، ستبقى غزة في المنطقة الرمادية:

لا حرب كاملة… ولا سلام حقيقي.

ثامنًا: التوصيات – من إدارة الأزمة إلى كسر المسار

استنادًا إلى التحليل السابق، توصي هذه الورقة بما يلي:

1) الانتقال من منطق “التهدئة المؤقتة” إلى إطار سياسي مُلزم

• ضرورة تحويل الهدنة من تفاهمات أمنية هشة إلى اتفاق سياسي مكتوب بمرجعيات واضحة وجدول زمني محدد.

• ربط أي مرحلة لاحقة بضمانات دولية ملزمة، لا بتفاهمات شفوية قابلة للانهيار.

2) فصل الملف الإنساني عن الابتزاز السياسي

• ضمان تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة دون ربطها بشروط أمنية أو تفاوضية.

• إنشاء آلية رقابة دولية مستقلة تضمن العدالة في التوزيع والاستدامة، وتمنع استخدام الغذاء والدواء كأدوات ضغط.

3) مقاربة شاملة لمسألة الحكم في غزة

• رفض الحلول المفروضة من الخارج أو الإدارة المؤقتة غير التمثيلية.

• دعم مسار حكم فلسطيني توافقي يستند إلى شرعية داخلية، لا إلى تفويض أمني خارجي.

• اعتبار إعادة بناء المؤسسات المدنية جزءًا من الحل السياسي لا نتيجة مؤجلة له.

4) إعادة تعريف ملف السلاح ضمن مقاربة أمن جماعي

• التعامل مع سلاح المقاومة كجزء من معادلة أمنية وسياسية شاملة، لا كشرط أحادي.

• أي نقاش حول الأمن يجب أن يتزامن مع إنهاء الاحتلال، وضمانات سيادية حقيقية، لا في ظل واقع السيطرة والتهديد.

5) إعادة الإعمار كحق لا كصفقة

• التأكيد أن إعادة الإعمار ليست أداة مكافأة أو عقاب، بل حق إنساني وقانوني.

• رفض ربط الإعمار بمشاريع تغيير ديمغرافي أو هندسة سياسية للقطاع.

• إشراك المجتمع المحلي الفلسطيني في التخطيط والتنفيذ، لا اختزاله إلى متلقٍ للمساعدات.

6) حماية وتفعيل المسار القانوني الدولي

• دعم استمرار التحقيقات القضائية الدولية باعتبارها رافعة ردع، لا عقبة أمام السلام.

• توثيق الجرائم والانتهاكات بشكل منهجي، وربط أي تسوية سياسية بعدم الإفلات من العقاب.

• الفصل بين العدالة الانتقالية والصفقات السياسية قصيرة الأمد.

7) دور الوسطاء: من إدارة التوازن إلى صناعة الحل

• مطالبة الوسطاء الإقليميين والدوليين بالانتقال من دور “منع الانفجار” إلى بناء حل مستدام.

• عدم الاكتفاء بإدارة الخروقات، بل الضغط باتجاه معالجة جذور الصراع: الاحتلال، الحصار، والحقوق الوطنية.

خلاصة تنفيذية للتوصيات

إن أي مسار لا يعالج السيادة، والتمثيل، والعدالة سيعيد إنتاج الأزمة بأدوات مختلفة.

غزة لا تحتاج إلى مزيد من إدارة الألم، بل إلى كسر المسار عبر حل سياسي يعترف بحقوق شعبها كاملة، لا بوصفها ملفًا أمنيًا أو إنسانيًا فقط.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى