
إعداد:
م. إسماعيل عبد اللطيف الأشقر
إسطنبول – 2025
ملخص تنفيذي
تكشف وثيقة الأمن القومي الأمريكية الصادرة في عهد الرئيس دونالد ترامب (2025) عن تحوّل عميق في تعريف التهديدات والأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة. فبدل التركيز التقليدي على المنافسين الدوليين الكبار مثل روسيا والصين، تعيد الوثيقة صياغة مفهوم “العدو” بوصفه تهديدًا حضاريًا وثقافيًا مرتبطًا بالهوية، والهجرة، والتحولات الديموغرافية، والصحة الروحية” للمجتمعات الغربية.
هذا التحول، الذي وصفه الكاتب الأمريكي توماس فريدمان بأنه “حرب حضارية لا حربًا باردة”، لا يغيّر فقط من طبيعة الصراع الدولي، بل يعيد تعريف التحالفات، ومعايير الشرعية، ومكانة القيم الديمقراطية والقانون الدولي في السياسة الأمريكية.
أولًا: التحول في تعريف الأمن القومي
- من الجغرافيا السياسية إلى الهوية
تُظهر الوثيقة انزياحًا واضحًا:
- من حماية النظام الدولي الليبرالي
- إلى حماية “الثقافة الأمريكية” والهوية الغربية”
لم تعد التهديدات محصورة في:
- الجيوش
- الصواريخ
- المنافسة الاقتصادية
بل باتت تشمل:
- الهجرة العابرة للحدود
- التغيرات الديموغرافية
- ما تسميه الوثيقة “تآكل القيم التقليدية”
- الأمن القومي كقضية ثقافية داخلية
تربط الوثيقة الأمن القومي بمفاهيم غير مسبوقة في الأدبيات الاستراتيجية، مثل:
- “الصحة الروحية للمجتمع”
- “قوة الأسرة التقليدية”
- “الهوية الوطنية المتجانسة”
وبذلك تنتقل السياسة الخارجية من مجال المصالح إلى مجال الصراع الثقافي والأيديولوجي.
ثانيًا: أوروبا في قلب السجال الحضاري
- خطاب “المحو الحضاري”
تصف الوثيقة أوروبا بأنها تواجه خطر “محو حضاري” نتيجة:
- سياسات الهجرة
- تراجع معدلات الإنجاب
- ما تعتبره “قمعًا لحرية التعبير”
وتُقدَّم هذه القراءة بوصفها مسألة أمن قومي أمريكي، لا شأنًا أوروبيًا داخليًا.
- إعادة تعريف الحليف
تبعًا لذلك، لم يعد تقييم الحلفاء الأوروبيين قائمًا على:
- عمقهم الديمقراطي
- التزامهم بحقوق الإنسان
بل على:
- مدى تشددهم في قضايا الهجرة
- انسجامهم مع خطاب الهوية والسيادة
وهو ما يشكّل تحولًا جذريًا في مفهوم التحالف الغربي.
ثالثًا: روسيا… من خصم استراتيجي إلى شريك ظرفي
تُقلل الوثيقة من مركزية الصراع مع روسيا، وتطرح:
- أولوية “وقف سريع للقتال” في أوكرانيا
- إعادة الاستقرار بدل الاستنزاف
في هذا السياق، يفسر عدد من المحللين التقارب مع موسكو ضمن رؤية ترى في القيادة الروسية نموذجًا لـ:
- القومية المحافظة
- الدفاع عن الهوية الدينية والثقافية
وهو ما ينسجم مع منطق “الحرب الحضارية” لا منطق الحرب الباردة.
رابعًا: قراءة توماس فريدمان – لماذا حرب حضارية؟
يرى فريدمان أن ترامب:
- لا يسعى إلى إدارة صراع بين أنظمة دولية
- بل إلى خوض معركة حول “من نحن؟ ومن هم الآخرون؟”
وفق هذا المنظور:
- لم تعد الصين وروسيا الخصم المركزي
- بل “الآخر الثقافي” داخل الغرب وخارجه
وتُبنى التحالفات الجديدة على أساس:
- الهوية
- الدين
- العرق
وليس على القيم الديمقراطية أو القانون الدولي.
خامسًا: التداعيات على القانون الدولي وقضايا العدالة
- تراجع مركزية القانون الدولي
هذا التحول يضعف:
- منظومة حقوق الإنسان
- آليات المحاسبة الدولية
- دور المؤسسات الأممية
إذ تصبح “الصفقة” و”الاستقرار السريع” أهم من:
- العدالة
- معالجة الجذور
- حماية المدنيين
- غزة نموذجًا
في هذا الإطار، تُدار قضايا مثل غزة:
- كملف أمني–سياسي
- لا كقضية حقوق شعب واقع تحت الاحتلال
ويُقاس “النجاح” بوقف القتال أو تبادل الأسرى، لا بمساءلة الجناة أو إنهاء الاحتلال.
سادسًا: استنتاجات استراتيجية
- ما نشهده ليس نزوة سياسية، بل عقيدة متماسكة
- الخطر لا يكمن في “جنون” ترامب، بل في قابلية هذا الخطاب للتحول إلى سياسة دائمة
- الحرب الحضارية:
- تُفتّت التحالفات التقليدية
- تُشرعن الإقصاء
- تُهمّش القانون الدولي
- الشعوب المظلومة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، هي الخاسر الأكبر في عالم تُدار فيه السياسة بمنطق الهوية لا العدالة.
خاتمة
إن وثيقة الأمن القومي في عهد ترامب تمثل إعلانًا غير مباشر عن نهاية مرحلة وبداية أخرى:
مرحلة تُدار فيها العلاقات الدولية بمنطق “نحن وهم”، لا بمنطق القانون والقيم المشتركة.
وفهم هذا التحول شرط أساسي لأي قراءة واقعية لمستقبل الصراع في غزة، ولمكانة القانون الدولي، ولمسار النظام العالمي في السنوات القادمة.