
الدكتور | محمد المدهون
في مشهد سياسي غير مسبوق، شكّل فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك لحظة فارقة في التاريخ الأمريكي، ليس فقط على مستوى التمثيل السياسي، بل في إعادة تشكيل الوعي الجمعي لجيل جديد يتصدر المشهد: جيل Z. هذا الانتصار لم يكن مجرد فوز انتخابي، بل إعلان عن ميلاد سردية جديدة تتقاطع فيها العدالة المحلية مع القضايا العالمية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
لقد عبّر هذا التحول عن رفض متزايد داخل المجتمع الأمريكي للمعادلات التقليدية التي لطالما حكمت السياسة الخارجية، خاصة تلك المرتبطة بالتحالفات غير المشروطة مع تل أبيب. فممداني، الذي ينتمي إلى خلفية متعددة الثقافات، لم يكتف بتقديم خطاب محلي، بل منح الفلسطينيين صوتًا أخلاقيًا وسياسيًا في قلب واحدة من أكثر المدن تأثيرًا في العالم، دون أن يدّعي حل أزمة غزة، بل بفتح الباب لفهم جديد يمكن أن يكون الفلسطينيون جزءًا منه، إذا ما تبنّوا عقلية إنسانية شاملة تستثمر الانتصارات الأخلاقية في صياغة واقع عالمي أكثر توازنًا.
إن صمود غزة ومقاومتها في وجه آلة الحرب والإبادة الجماعية كان له الأثر العميق في هذا التحول. فقد بات واضحًا أن أقصر الطرق لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني تكمن في إرادة جامعة تسعى إلى بناء واقع سياسي جديد، مستلهم من رمزية النصر الأخلاقي، ومؤسس على خطاب إنساني يتجاوز الاصطفافات التقليدية.
فوز ممداني يرمز إلى إمكانية إعادة توازن السياسة الأمريكية، داخليًا وخارجيًا، وطرح دعم الحقوق الفلسطينية كجزء من الخطاب السياسي السائد، لا كاستثناء. لكنه أيضًا يضع الولايات المتحدة أمام اختبار حقيقي: هل يمكنها أن تتحول من قوة نفوذ إلى قوة بناء؟ وهل تستطيع أن تفتح قنوات حوار جادة تشمل جميع الفاعلين الفلسطينيين، من السلطة إلى حماس، عبر وسطاء دوليين محايدين، تركز على القضايا الإنسانية، وتدعم جهود إعادة الإعمار والتنمية في غزة؟
إن العدالة في علاقة أمريكا مع غزة تتطلب رؤية استراتيجية تشمل تمويل مشاريع تنموية بالشراكة مع الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، في مجالات التعليم، الصحة، البنية التحتية، وبرامج التدريب المهني، بعيدًا عن التوظيف السياسي أو الأمني.
كما يستلزم إشراك القوى الفلسطينية في أي تسوية مستقبلية، بما يعكس جدية الولايات المتحدة في لعب دور بنّاء نحو استقرار عادل وشامل في المنطقة. في النهاية، فإن هذه المرحلة قد تكون نقطة انطلاق لتحولات جذرية في المشهد السياسي الأمريكي والعالمي، حيث يصبح الشباب، والعدالة، والوعي الإنساني، أدوات حقيقية لصياغة السياسات الدولية، لا مجرد شعارات انتخابية. فغزة، التي قاومت تحت الركام، قد تكون هي من أطلقت شرارة أمريكا الجديدة.





