
برزت قصة استشهاد عبدالله غازي حمد — نجل القيادي في حركة حماس وعضو الوفد المفاوض الدكتور غازي حمد — لتعيد فتح ملف الوفد الذي خاض المفاوضات خلال أشهر القتال، وتكشف حجم الكلفة الإنسانية التي دفعها أعضاؤه، وما تحمله هذه الوقائع من دلالات عن طبيعة القرار داخل الحركة، وحدود التفاوض تحت النار، وما جرى من اتهامات حول إهمال المحاصرين في أنفاق رفح.
الصحفي مصطفى البنا قدّم المدخل الأبرز للقصة، حين قال إن غازي حمد “ذاق الأذى مرتين” — الأولى عندما اتُّهم الوفد بالتقصير في ملف مقاتلي الأنفاق، رغم أن نجله كان أحدهم، والثانية عندما انتشرت أخبار استشهاده بعد شهور من فقدان الاتصال به.
هنا تتجلى مفارقة مؤلمة: من يدير التفاوض هو نفسه من يرسل ابنه إلى عمق المعركة، لا من يجلس على مكاتب باردة بعيداً عن الرماد والركام.
البنا أشار بوضوح إلى أن الوفد لم يمتلك رفاهية المناورة أو الضغط الخارجي، وأن التفاوض كان يتم “بلحم حيّ” وسط معادلة تمسك “إسرائيل” بمفاتيحها، بينما تكتفي أطراف عربية ودولية بالمشاهدة أو تسجيل حضور رمزي باهت.
ورغم ذلك، فإن الاتهامات التي طالت الوفد — خصوصاً من خارج غزة — كان وقعها شبيها بصواريخ الحرب نفسها، وكأن من يوجه النقد لم يدرك حجم الفقد الشخصي الذي دفعه هؤلاء.
الكاتب علي أبو رزق وضع الحدث في سياق أوسع بكثير من حالة فردية، ليذكّر برحيل ثلاثة من أبناء الوفد المفاوض خلال الحرب ذاتها:
همام — نجل رئيس الوفد خليل الحية
نعيم — نجل عضو الوفد باسم نعيم
عبدالله — نجل عضو الوفد الدكتور غازي حمد
تضحيات متسلسلة ومتزامنة، يكتبها الدم لا البيان، ويجعلها الواقع أكثر رسوخاً من أي جدل إعلامي أو حزبي.
الإعلامية منى حوا التقطت المفارقة بدقة: الأب على طاولة التفاوض.. والابن يقاتل في الأنفاق.
من حيث يفاوض العقل، يقاتل القلب. ومن حيث يجلس الأب في ضوء الكاميرات، يرقد الابن تحت الأرض بعيداً عن الشاشات، بلا ضوء سوى فوهة بندقية تقاوم الحصار.
هنا تتهاوى الروايات الجاهزة التي تزعم “بيع القسام” أو التخلي عن المقاتلين. إذ كيف يبيع المرء من هم من صلبه؟ وكيف يكون التفاوض هروباً بينما أبناؤهم في الصفوف الأولى؟!
المحلل السياسي إبراهيم المدهون وصف استشهاد عبدالله بأنه شهادة على التزام والده لا على تراخي دوره، مؤكداً أن غازي حمد لم يُعلن يوماً أن ابنه محاصر أو يقاتل في رفح، حفاظاً على تركيزه في التفاوض، وتجنباً لأي استثمار عاطفي قد يُفسد عقلانية القرار.
“أي مسؤول يضع شعبه قبل ابنه؟
وأي قلب يُخفي وجعه حتى لا يختل ميزان المصلحة العامة؟” بهذا التساؤل، يسلط المدهون الضوء على بُعد إنساني مغيب: هؤلاء الرجال لا يفاوضون نيابة عن شعب منفصل عنهم، بل يقاتلون من خلال أبنائهم، ويفاوضون بقلوب مكسورة لا يجرؤون على الاعتراف بها.
أما الصحفي محمود هنية فذهب إلى أبعد من أسماء محددة، مقدماً سرداً تاريخياً واسعاً يوثق حجم التضحيات في صفوف القيادة السياسية:
ثلاثة من أبناء رئيس المكتب السياسي استشهدوا
8 من أعضاء المكتب السياسي استشهدوا
قادة قُطعت سلالاتهم كاملة من السجلات المدنية
ليطرح السؤال الأخطر: إذا كانت هذه القيادة بعيدة عن شعبها — فمن يكون القريب إذن؟
الخطاب هنا لا يخلو من اتهام مباشر لخصوم الحركة الذين يصفهم هنية بـ”أبناء الخطيئة”، في إشارة إلى الذين يتحدثون عن قيادات منفصلة عن الميدان بينما الوقائع تصرخ بالعكس.
قصة استشهاد عبدالله غازي حمد ليست مجرد حدث عسكري، بل مرآة كبيرة لتاريخ كامل من الدمعة المحبوسة خلف ملفات التفاوض.




