
في لحظة فارقة يتشابك فيها الدم بالسياسة، وتتحوّل فيها الاتفاقات إلى اختبارات قاسية للنوايا، يجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام واقع يصوغه الاحتلال بالقوة، من خلال خروقات متواصلة ومحاولات لتكريس وقائع جديدة على الأرض.
وبين حصار يشتد، وتهديدات متصاعدة، ومسار سياسي هش، تتحمل المقاومة مسؤوليات مضاعفة في حماية شعبها ومنع انزلاق القطاع إلى حرب جديدة، بينما يواصل الاحتلال استثمار كل ثغرة لفرض سيطرته.
وفي ظل هذا المشهد المأزوم، يقدّم الكاتب والمحلل السياسي ورئيس المؤسسة الفلسطينية للإعلام إبراهيم المدهون قراءة خاصة للمركز الفلسطيني للإعلام لطبيعة المرحلة الراهنة، كاشفًا تعقيداتها ومخاطرها وما تتطلبه من مواقف عربية ودولية فاعلة.
قواعد اشتباك جديدة
فقد قال المدهون إن الاحتلال الإسرائيلي يسعى، من خلال خروقاته المتكررة، إلى فرض قواعد اشتباك جديدة تختلف عمّا ورد في اتفاق وقف إطلاق النار، وتتعارض أيضًا مع ما تضمّنته خطة ترامب.
وأشار إلى أن إسرائيل كانت مضطرة للقبول بالاتفاق، لكنها اليوم تعمل على منع الانتقال إلى المرحلة الثانية، مع الإبقاء على احتلالها لأكثر من نصف قطاع غزة، وفرض سيطرة نارية على بقية مناطقه.
وأضاف المدهون للمركز الفلسطيني للإعلام أن الاحتلال يواصل استهداف الشعب الفلسطيني عبر إغلاق المعابر والتحكم في دخول البضائع والاحتياجات الأساسية، بل ومحاولة خلق بيئة خانقة تشمل كل تفاصيل الحياة، مؤكدًا أن مشروع التهجير الجماعي ما زال واحدًا من أهم أهداف إسرائيل في هذه الحرب دون أن تتراجع عنه.
ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ارتكبت قوات الاحتلال مئات الخروقات ما أسفر عن 347 شهيدا و871 جريحا.
وأنهى الاتفاق حرب إبادة جماعية بدأتها إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 واستمرت عامين، وخلّفت قرابة 70 ألف شهيد ونحو 171 ألف جريح، ودمارا هائلا طال 90% من البنى التحتية المدنية في قطاع غزة.
ويوضح المدهون أن خيارات المقاومة في هذه المرحلة “شديدة التعقيد وجميعها خيارات مُرّة”، لافتًا إلى أن الرد المباشر على الخروقات قد يعرّض الشعب الفلسطيني لاحتمال العودة إلى حرب واسعة بكل ما تحمله من دمار وأثمان إنسانية فادحة، بينما تحرص المقاومة على تجنيب القطاع موجة عسكرية جديدة.
وفي المقابل، فإن عدم الرد يمنح الاحتلال فرصة لمواصلة تجاوزاته وتوسيع دائرة الاغتيالات والتوغلات بذريعة ذرائع أمنية مصطنعة.
محادثات القاهرة
ووفق تقديرات متابعين فإن فصائل المقاومة الفلسطينية تعمل على وضع قواعد اشتباك جديدة ما لم يتمكن الوسطاء والضامنون من إلزام إسرائيل باحترام اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وأجرى وفد رفيع من حركة حماس محادثات في العاصمة المصرية القاهرة، الأحد، شملت تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق والأوضاع الحالية في القطاع.
وأوضح المتحدث باسم حماس حازم قاسم، أن الوفد ناقش مع رئيس المخابرات المصرية حسن رشاد، أمورا من بينها إلزام إسرائيل بضرورة وقف خروقاتها التي تهدد بتقويض الاتفاق، حسب قاسم، الذي وصف مسارات المرحلة الثانية بالمعقدة.
التعامل بمسؤولية
المحلل السياسي إبراهيم المدهون يؤكد أن المقاومة تتعامل مع المرحلة الراهنة بقدر عالٍ من المسؤولية، متمسكة بالاتفاق سياسيًا، وتواصل العمل على حشد موقف إقليمي ودولي قادر على ممارسة ضغط فعلي على الاحتلال لمنع الانزلاق إلى حرب لا يرغب بها الشعب الفلسطيني.
وأشار إلى أن الأداء الأمريكي يعكس انحيازًا واضحًا للرواية الإسرائيلية، وتفهمًا لخروقات الاحتلال، وتغاضيًا عن تنفيذ الاتفاق بصورة كاملة.
ورغم التصريحات الأميركية التي تزعم دعم الاستقرار، إلا أن واشنطن – وفق تقديراته – لم تمارس الضغط المطلوب لوقف التجاوزات الإسرائيلية، بل إن هناك مؤشرات على أن بعض الخروقات جرت بتنسيق مباشر معها.
وقال المدهون إن هذا الواقع يفرض مسؤولية مضاعفة على الوسطاء، وخاصة الدول العربية، للقيام بدور فاعل يضمن التزام إسرائيل ببنود الاتفاق، والضغط على الولايات المتحدة لاعتماد موقف أكثر توازنًا، يضع حدًا لحالة التغول العسكري والسياسي الإسرائيلي.
ورجّح أن يعمل الاحتلال خلال الفترة المقبلة على إطالة أمد المرحلة الأولى واستثمار الوقت لفرض مزيد من الحقائق الميدانية، بما في ذلك تكثيف الاستهدافات والتوغلات المحدودة.
وأوضح أن الولايات المتحدة تحاول بلورة صيغة قوة دولية، لكنها ستصطدم بعقبات سياسية وميدانية، أبرزها الرفض الإسرائيلي لأي وجود دولي يمتلك صلاحيات حقيقية.
وحذّر المدهون من أن استمرار هذه الخروقات قد يحوّل الاتفاق إلى مجرد صيغة شكلية، بينما يواصل الاحتلال تكريس واقع جديد يمنحه حرية كاملة في الضغط على غزة اقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا.
ورأى أن الانتقال الجدي إلى المرحلة الثانية من الاتفاق لن يكون ممكنًا دون تحرك إقليمي ودولي واضح، وضغط عربي فعلي يجبر إسرائيل على الانسحاب وتنفيذ بنود الاتفاق كما هي، محذرًا من أن غياب هذا الضغط سيُبقي القطاع في حالة عدم يقين مفتوحة.
حالة اللاسلم واللاحرب
تحركات الفصائل في القاهرة، تأتي وفق الكاتب والمحلل السياسي أحمد الطناني، بسبب استشعار المقاومة رغبة إسرائيل إطالة المرحلة الأولى من الاتفاق ما لم تتمكن من فرض أجندة معنية على المرحلة الثانية.
وأشار إلى أن إسرائيل تحاول إبقاء حالة اللاسلم واللاحرب بحيث تعيد صياغة عدوانها على القطاع تحت مظلة الاتفاق، وفق تعليق له على الجزيرة تابعه المركز الفلسطيني للإعلام.
وينبه الطناني إلى تزامن وصول وفد حماس القيادي إلى القاهرة مع وجود قادة الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي، وهو ما يشي بوجود توافق بين الفصائل على ضرورة إنهاء الحالة التي تريد إسرائيل فرضها.
ويقدر أن تشهد المرحلة المقبلة تعاملا مغايرا من جانب المقاومة مع الخروقات الإسرائيلية التي قال إنه من غير الممكن تمريرها دون رد ميداني من جانب الفلسطينيين أو سياسي من جانب الوسطاء والضامنين.
وتوقع الطناني أن تضع المقاومة قواعد اشتباك جديدة مع قوات الاحتلال بالقطاع، مع تأكيده على أنها ستواصل سياسة سد الذرائع في المرحلة الحالية أملا في تثبيت الاتفاق الذي ترى فيه مصلحة خالصة للفلسطينيين.






