لجنة التحقيق في 7 أكتوبر: معركة داخل “إسرائيل” على الرواية والمسؤولية”

منذ الساعات الأولى التي تلت هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعالت الأصوات داخل إسرائيل للمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية تكشف حجم الإخفاقات الأمنية والعسكرية والسياسية التي سبقت الهجوم، وتلك التي رافقته في الساعات والأيام الأولى.
ومع مرور الوقت وتراكم الشهادات وتسرب الوثائق، تحولت هذه اللجنة إلى معركة سياسية تتجاوز حدود التحقيق في حدث واحد، لتلامس مستقبل القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
ورغم مرور أكثر من عامين على الهجوم، فإن تشكيل اللجنة ما يزال معلقًا، بفعل مقاومة حكومية واضحة، وخلافات عميقة داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية، وضغط شعبي آخذ في التصاعد، خاصة من عائلات القتلى والمفقودين والأسرى.
ما هي لجنة التحقيق الرسمية؟
في إسرائيل، تُعد لجنة التحقيق الرسمية أعلى هيئة تحقيق مستقلة يمكن تشكيلها، وهي تختلف عن لجان الفحص البرلمانية أو لجان الخبراء. يتم تشكيلها عادة عبر رئيس المحكمة العليا، وتتمتع بصلاحيات واسعة تشمل استدعاء الشهود، الاطلاع على وثائق سرية، وإلزام المسؤولين — بمن فيهم رئيس الحكومة ووزراء الدفاع — بالإدلاء بشهاداتهم دون القدرة على استخدام الامتيازات السياسية أو الأمنية لرفض ذلك.
سبق أن شُكّلت لجان مماثلة في أحداث محورية مثل:
• لجنة أغرانات عام 1973 للتحقيق في إخفاقات حرب أكتوبر.
• لجنة كاهان عام 1982 للتحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا.
وتاريخيًا، أدت هذه اللجان إلى إسقاط رؤساء أركان، وإجبار وزراء على الاستقالة، وأثرت في المسار السياسي لإسرائيل لسنوات.
لماذا تُعدّ لجنة التحقيق في 7 أكتوبر مفصلية؟
1. لأنها قد تطيح بقيادة سياسية وأمنية رفيعة
اندلع الجدل حول المسؤولية عن سقوط الغلاف، وانهيار منظومة الإنذار المبكر، وتباطؤ الجيش في الاستجابة. وجود لجنة تحقيق مستقلة قد يضع نتنياهو ووزراء حكومته وقادة جهاز الشاباك والاستخبارات العسكرية في قفص الاتهام السياسي، وهو ما يفسر رفض الحكومة لفكرة اللجنة بشدة.
2. لأنها تكشف حجم التلاعب بالرواية
تبادل الاتهامات بين الجيش والحكومة بشأن من يتحمل الفشل الأمني وصل إلى ذروته. الجيش نفسه أقر لاحقًا بوجود إخفاقات استراتيجية، بينما حاولت الحكومة تحميل المسؤولية لمستويات استخباراتية دنيا.
اللجنة، لو شُكّلت، ستقدم رواية موحدة تستند إلى شهادات ووثائق، ما يعني نزع الاحتكار السياسي عن الرواية الرسمية.
3. لأنها تطال الحرب على غزة
الكثير من القرارات التي اتخذت بعد الهجوم — ومنها اجتياح القطاع، وإدامة الحرب، وإدارة ملف الأسرى — مرتبطة بتقديرات وقرارات لم تُفصح الحكومة عن خلفياتها. أي تحقيق في “ما قبل الهجوم” سيتوسع طبيعيًا إلى فحص ما جرى “بعد الهجوم”.
مواقف الأطراف المختلفة
الحكومة: رفض مطلق
نتنياهو وحلفاؤه يرون أن تشكيل لجنة الآن “يضر بالمجهود الحربي” ويضعف الجبهة الداخلية. لكنّ محللين إسرائيليين يقولون إن السبب الحقيقي هو الخشية من أن تصبح اللجنة أداة لإسقاط الحكومة.
حتى عندما طرحت المعارضة تشكيل لجنة بعد انتهاء الحرب، عارض نتنياهو ذلك، وقال إن التحقيق يجب أن يبدأ فقط “عندما تنتهي الحرب ويثبت الانتصار”، وهو شرط يُنظر إليه على أنه محاولة لكسب الوقت.
الجيش: استعداد مشروط
قيادة الجيش الإسرائيلي لا تمانع تشكيل اللجنة، لكن بعد انتهاء العمليات، إذ يدرك كبار الضباط أن الكثير من الثقة الشعبية تراجعت، وأن التحقيق الرسمي قد يخفف الضغط والانتقادات.
مع ذلك، الجيش يخشى من تحميله المسؤولية وحده، خاصة أن بعض قرارات الحكومة السياسية ساهمت في إهمال التحذيرات التي سبقت الهجوم.
المعارضة: سلاح سياسي
تستخدم المعارضة — خصوصًا حزبي “هناك مستقبل” و”المعسكر الوطني” — ملف لجنة التحقيق للضغط على نتنياهو. غانتس ولابيد أعلنا مرارًا أن عدم تشكيل اللجنة “هروب من المسؤولية”، وأن إسرائيل تحتاج “مراجعة عميقة تعيد الثقة بين القيادة والشعب”.
عائلات القتلى والأسرى: الطرف الأكثر تأثيرًا
هذه الفئة باتت قوة ضغط اجتماعية كبرى. عشرات المظاهرات التي خرجت في تل أبيب والقدس طالبت بتشكيل اللجنة فورًا، معتبرة أن “دماء أبنائها ليست مادة للمساومة السياسية”.
ما الذي يمكن أن تكشفه اللجنة؟
1. فشل استخباراتي منهجي
رغم التنبيهات التي صدرت قبل الهجوم، تجاهلت الأجهزة الإسرائيلية مؤشرات جوهرية. اللجنة ستكشف كيف ولماذا تم إسكات التحذيرات.
2. سوء إدارة حكومي
ستبحث اللجنة في قرارات مجلس الوزراء المصغر، وكيف تسببت الخلافات السياسية في تعطيل الاستعدادات.
3. انهيار منظومات الإنذار
منظومات المراقبة على حدود غزة، والبالونات الجوية، ووحدات التجسس الإلكتروني — كلها تعطلت دون تدخل فوري، وهو ما سيطرح سؤالًا كبيرًا حول من قصّر ومن تجاهل.
4. حقيقة الساعات الأولى للهجوم
ما تزال تفاصيل كثيرة غامضة:
• متى أُبلغ نتنياهو؟
• لماذا تأخر الجيش 6–8 ساعات في الوصول إلى بعض المستوطنات؟
• لماذا تُرك السكان ليدافعوا بأنفسهم؟
هذه الأسئلة وحدها تشكّل مادة كافية لإسقاط حكومات كاملة في إسرائيل.
هل ستُشكّل اللجنة فعلًا؟
هذا هو السؤال الأهم.
المؤشرات الحالية تقول إن الحكومة تحاول تفادي تشكيل اللجنة بأكبر قدر ممكن، لأن نتائجها قد تكون زلزالًا سياسيًا.
لكن الضغوط الشعبية والإعلامية والدولية تتصاعد، إضافة إلى الضغوط من داخل الجيش نفسه. ومع استمرار الحرب واستنزاف الخزان الاجتماعي والاقتصادي، تبدو إسرائيل في وضع لا يمكنها تجاهل التحقيق إلى ما لا نهاية.
قد تُشكّل اللجنة في نهاية المطاف، لكن:
• بعد انتهاء العمليات في غزة
• أو إذا سقطت حكومة نتنياهو
• أو إذا دفعت المحكمة العليا باتجاه القرار
لجنة التحقيق في 7 أكتوبر ليست مجرد “لجنة فحص” حدث أمني؛ إنها معركة على مستقبل القيادة الإسرائيلية، وعلى الرواية التي ستبقى في الذاكرة السياسية لسنوات طويلة. بين حكومة ترفض، ومعارضة تضغط، وجيش يخشى المحاسبة، وشعب جريح يطالب بالحقيقة، تبقى هذه اللجنة واحدة من أكثر الملفات حساسية في إسرائيل.
وما لم تُفتح التحقيقات رسمياً، سيظل 7 أكتوبر جرحاً مفتوحاً في المجتمع الإسرائيلي، ومفصلاً لا يمكن تجاوزه في تاريخ الصراع.




